فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (93):

{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية، نزلت في مِقْيَس بن صُبَابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشام قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمْتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديَتَه، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا: سمعًا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا ولكنّا نؤدي ديَتَه، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسًا فوسوس إليه، فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبَّة، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية؛ فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه، ثم ركب بعيرًا وساق بقيتها راجعًا إلى مكة كافرًا فنزل فيه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} بكفره وارتدادِهِ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، عمّن أمَنَهُ فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة.
قوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} أي: طرده عن الرحمة، {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} اختلفوا في حكم هذه الآية.
فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قاتل المؤمن عمدًا لا توبةَ له، فقيل له: أليس قد قال الله في سورة الفرقان: {ولا يقتلون النفس التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ} إلى أن قال: {ومن يَفْعَلْ ذلك يلق أثَامًا يُضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهَانًا إلا مَنْ تابَ} [الفرقان 67- 70]، فقال: كانت هذه في الجاهلية، وذلك أن أناسًا من أهل الشرك كانُوا قد قتلُوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّ الذي تدعوا إليه لحَسَنٌ، لو تخبرنا أنّ لِمَا عملنا كفارة، فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} إلى قوله: {إلا مَنْ تَابَ وآمن} فهذه لأولئك.
وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم.
وقال زيد بن ثابت: لما نزلت التي في الفرقان {والذين لا يدعُون مع الله إلها آخر}، عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللّينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية، وباللّينة آية الفرقان.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تلك آية مكية وهذه مدنية نزلت ولم ينسخها شيء.
والذي عليه الأكثرون، وهو مذهب أهل السنة: أن قاتل المسلم عمدًا توبته مقبولة لقوله تعالى: {وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن وعملَ صالحا} [طه- 82] وقال: {إن الله لا يغفر أن يُشْرَكَ به ويغفرُ ما دون ذلكَ لمن يشاء} [النساء- 48] وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل، كما رُوي عن سفيان بن عُيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبةَ لك، وإن قَتَلَ ثم جاء يُقال: لك توبة. ويُروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر، لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر، وهو مقيس بن صبابة، وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمنًا مستحلا لقتله بسبب إيمانه، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرًا مخلدًا في النار، وقيل في قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} معناه: هي جزاؤه إن جازاه، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه، فإنه وعد أنْ يغفر لمن يشاء.
حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يُخلفُ الله وعدَه؟ فقال: لا فقال: أليس قد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} فقال له أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أُتِيْتَ يا أبا عثمان! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفًا وذمًا، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفًا وذمًا، وأنشد:
وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُه أو وَعَدْتُه ** لَمُخْلِفُ إيعادَيِ ومُنْجِزُ مَوْعِدِي

والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن، عبادة بن الصامت رضي الله عنه- وكان شهد يوم بدرًا وهو أحد النقباء ليلة العقبة- وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تُشْرِكُوا بالله شيئا ولا تسرقُوا ولا تزنُوا ولا تقتلُوا أولادَكم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونَه بينَ أيديكُم وأرجلكم ولا تعصُوا في معروفٍ، فمنْ وفىَّ منكم فأجرُه على الله، ومن أصاب من ذلك شيئُا فعُوقِبَ في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاءَ عفا عنه وإن شاء عاقبه»، فبايعناه على ذلك.

.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك، وكان من أهل فدك وكان مسلمًا لم يُسلم من قومه غيره، فسمعوا بسريةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم، وكان على السرية رجل يقالُ له غالب بن فُضالة الليثي، فهربُوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقُول من الجبل، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيلُ سمعهم يكبرون، فلمّا سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبرّ ونزل وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدًا شديدًا، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتلتموه إرادَةَ ما مَعَه»؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد، فقال: يا رسول الله استغفر لي، فقال فكيف بلا إله إلا الله؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وَددْتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفرَ لي بعد ثلاث مرات، وقال: «اعتقْ رقبةً».
وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله إنّما قال خوفًا من السلاح، قال: «أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفًا أم لا»؟
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رجلٌ من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلّم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلُوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني إذا سافرتم في سبيل الله، يعني: الجهاد.
{فَتَبَيَّنُوا} قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت، أي: قفوا حتى تعرفوا المؤمنَ من الكافر، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين، يقال: تَبَيَّنْتُ الأمرَ إذا تأملته، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَم} هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة، أي: المقادة، وهو قول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وقرأ الآخرون السلام، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلّم عليهم، وقيل: السلّم والسلام واحد، أي: لا تقولوا لمن سلّم عليكم لستَ مؤمنًا، {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني: تطلبون الغُنم والغنيمة، و{عرض الحياة الدنيا} منافعها ومتاعها، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ} أي غنائم، {كَثِيرَة} وقيل: ثوابٌ كثير لمن اتّقَى قتلَ المؤمن، {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} قال سعيد بن جبير: كذلك كنتم تكتُمُون إيمانكم من المشركين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بإظهار الإسلام، وقال قتادة: كنتم ضُلالا من قبل فمنَّ الله عليكم بالإسلام والهداية.
وقيل معناه: كذلك كنتم من قبل تأمنْون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمنَّ الله عليكم بالهجرة، فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنًا.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} قلت: إذا رأى الغزاةُ في بلد أو قرية شعارَ الإسلام فعليهم أن يكفُّوا عنهم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قومًا فإن سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أغار عليهم.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا سفيان، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن ابن عصام، عن أبيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعثَ سريةً قال: «إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتُلُوا أحدًا».

.تفسير الآية رقم (95):

{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)}
قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري، حدثني صالح بن كيسان، عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: رأيتُ مروان بن الحكم جالسًا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} قال: فجاء ابنُ أم مكتوم وهو يُمْلِيها علي، فقال: يا رسول الله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تعالى عليه وفخذُهُ على فخذي، فثقلتْ علي حتى خفتُ أن ترضَّ فخذي، ثم سُرِّى عنه فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.
فهذه الآية في الجهاد والحثِّ عليه، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن الجهاد {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء، أي: إلا أولي الضّرر، وقرأ الآخرون برفع الراء على نعت {القاعدين} يُريُد: لا يستوي القاعدون الذين هم غيرُ أولي الضرر، أي: غير أولي الزَّمَانَةِ والضّعف في البدن والبصر، {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن العذر أقعدهم.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك، فَدَنَا من المدينة قال: «إنّ في المدينة لأقوامًا ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه»، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: «نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر».
ورَوى القاسم عن ابن عباس قال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر.
قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي: فضيلةً، وقيل: أراد بالقاعدين هاهنا أولي الضرر، فضّل الله المجاهدين عليهم درجةً لأن المجاهد باشر الجهاد مع النِّية وأولو الضرر كانت لهم نيةٌ ولكنّهم لم يباشروا، فنزلوا عنهم بدرجة، {وَكُلا} يعني المجاهد والقاعد {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يعني: الجنة بإيمانهم، وقال مقاتل: يعني المجاهد والقاعد المعذُور، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} يعني: على القاعدين من غير عذر.

.تفسير الآية رقم (96):

{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}
{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قال ابن محيريز في هذه الآية: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمَّر سبعين خريفا.
وقيل: الدرجات هي الإسلام والجهاد والهجرة والشهادة فازَ بها المجاهدون، أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجُورَبْذِي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، حدثني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الجبلي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا سعيد من رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وجبت له الجنة» قال فعجب لها أبو سعيد فقال: أعِدْهَا علي يا رسول الله، ففعل، قال: «وأخْرَى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» قال: وما هي يا رسول الله؟ فقال: «الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله».
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه، أنا أبي، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرِّز، أنا محمد بن يحيى، أنا شريح بن النعمان، أنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمَنَ بالله ورسولهِ وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كانَ حقًّا على الله عز وجل أن يُدخلهُ الجنّةَ، جاهد في سبيل الله أو جلسَ في أرضه التي وُلد فيها»، قالوا: أفلا نُنذر الناس بذلك؟ قال: «إن في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل من الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُمُ الله فاسألوه الفِرْدَوسَ فإنه أوسط الجنّةِ وأعلى الجنّةِ وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة».
واعلمْ أن الجهاد في الجملة فرضٌ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية.
ففرض العين: أن يدخل الكفارُ دار قوم من المؤمنين، فيجب على كل مكلف من الرجال، ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروجُ إلى عدوهم، حرًا كان أو عبدًا، غنيًا كان أو فقيرًا، دفعًا عن أنفسهم وعن جيرانهم.
وهو في حق من بَعُدَ منهم من المسلمين فرض على الكفاية، فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونُهم، وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء، ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارِّين في بلادهم، فعلى الإمام أن لا يخلي سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطَّلا والاختيارُ للمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره: أنْ لا يقعد عن الجهاد، ولكنْ لا يُفترض، لأنّ الله تعالى وعد المجاهد والقاعد الثوابَ في هذه الآية فقال: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ولو كان فرضًا على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب.